فصل: تفسير الآية رقم (162)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ يا* أَيُّهَا الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ لما حكى ما في الكتابين من نعوته صلى الله عليه وسلم وشرف من يتبعه على ما عرفت، أمر عليه الصلاة والسلام بأن يصدع بما فيه تبكيت لليهود الذين حرموا اتباعه وتنبيه لسائر الناس على افتراء من زعم منهم أنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب خاصة، وقيل‏:‏ إنه أمر له عليه الصلاة والسلام ببيان أن سعادة الدارين المشار إليهما فيما تقدم غير مختصة بمن اتبعه من أهل الكتابين بل شاملة لكل من يتبعه كائناً من كان وذلك ببيان عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص حتى صرحوا بكفر منكره وما هنا لا يأبى ذلك، والمفهوم فيه غير معتبر عند القائل به لفقد شرطه وهو ظاهر ‏{‏الذى لَهُ مُلْكُ السموات والارض‏}‏ في موضع نصب باضمار أعني أو نحوه أو رفع على إضمار هو‏.‏

وجوز أن يكون في موضع جر على أنه صفة للاسم الجليل أو بدل منه، واستبعد ذلك أبو البقاء لما فيه من الفصل بينهما، وأجيب بأنه مما ليس بأجنبي وفي حكم ما لا يكون فيه فصل ورجح الأول بالفخامة إذ يكون عليه جملة مستقلة مؤذنة بأن المذكور علم في ذلك أي اذكر من لا يخفى شأنه عند الموافق والمخالف، وقيل‏:‏ هو مبتدأ خبره ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله وجعله الزمخشري مع ذلك بدلاً من الصلة وقد نص على جواز هذا النحو سيبويه وذكر العلامة أن سوق كلامه يشعر بأنه بدل اشتمال، ووجه البيان أن من ملك العالم علويه وسفليه هو الإله فبينهما تلازم يصحح جعل الثاني مبيناً للأول وليس المراد بالبيان الإثبات بالدليل حتى يقال الظاهر العكس لأن الدليل على تفرده سبحانه بالألوهية ملكه للعالم بأسره مع أنه يصح أن يجعل دليلاً عليه أيضاً فيقال الدليل على أنه جل شأنه المالك المتصرف في ذلك انحصار الألوهية فيه إذ لو كان إنه غيره لكان له ذلك، واعترض أبو حيان القول بالبدلية بأن إبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا يعرف، وتعقب بأن أهل المعاني ذكروه وتعريف التابع بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ليس بكلي، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُحْيىِ وَيُمِيتُ‏}‏ لزيادة تقرير إلهيته سبحانه، وقيل‏:‏ لزيادة اختصاصه تعالى بذلك وله وجه وجيه والفاء في قوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأيها الناس‏}‏ لتفريع الأمر على ما تقرر من رسالته صلى الله عليه وسلم وإيراد نفسه الكريمة عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة على طريق الالتفات إلى الغيبة للمبالغة في إيجاب الامتثال ووصف الرسول بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏النبى الامى‏}‏ لمدحه ولزيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين ‏{‏الذى يُؤْمِنُ بالله وكلماته‏}‏ ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل عليهم السلام من كتبه ووحيه، وقرىء ‏{‏وَكَلِمَتُهُ‏}‏ على أرادة الجنس أو القرآن أو عيسى عليه السلام كما روى ذلك عن مجاهد تعريضاً لليهود وتنبيهاً على أن من لم يؤمن به عليه السلام لم يعتبر إيمانه، والاتيان بهذا الوصف تحمل أهل الكتابين على الامتثال بما أمروا به والتصريح بالايمان بالله تعالى للتبيه على أن الأيمان به سبحانه لا ينفك عن الايمان بكلماته ولا يتحقق إلا به ولا يخفى ما في ههذ الآية من إظهار النصفة والتفادي عن العصبية للنفس وجعلوا ذلك نكتة للالتفات وإجراء هاتيك الصفات ‏{‏واتبعوه‏}‏ أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ علة للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو زاجين له، وفي تعليقه بهما إيذان بأن من صدقة ولم يتبعه بالتزام شرعه فهو بعد في مهامه الضلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِن قَوْمِ مُوسَى‏}‏ يعني بني إسرائيل ‏{‏أُمَّةٍ‏}‏ جماعة عظيمة ‏{‏يَهْدُونَ‏}‏ الناس ‏{‏بالحق‏}‏ أي محقين على أن الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال أو بكلمة الحق على أن الباء للآلة والجار لغو ‏{‏وَبِهِ‏}‏ أي بالحق ‏{‏يَعْدِلُونَ‏}‏ في الأحكام الجارية فيما بينهم، وصيغة المضارع في الفعلين للإيذان بالاستمرار التجديدي، واختلف في المراد منهم فقيل أناس كانوا كذلك على عهد موسى صلى الله عليه وسلم والكلام مسوق لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والايمان بالآيات بمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام في كل خير وبيان إن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل منهم الموصوفون بكيت وكيت، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية‏.‏

واختار هذا شيخ الإسلام ولا يبعد عندي أن يكون ذلك بياناً لقسم آخر من القوم مقابل لما ذكره موسى عليه السلام في قوله‏:‏ ‏{‏أَتُهْلِكُنَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏ فيه تنيص على أن من القوم من لم يفعل، وقيل‏:‏ أناس وجدوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم موصوفون بذلك كعبد الله بن سلام وأضرابه ورجحه الطيبي بأنه أقرب الوجوه، وذلك أنه تعالى لما أجاب عن دعاء موسى عليه السلام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الامى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156، 157‏]‏ الخ ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما فيه تبكيت لليهود وتنبيه على افترائهم فيما يزعمونه في شأنه عليه السلام مع إظهار النصفة وذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يا* أَيُّهَا الناس‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ الخ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَئَامِنُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ الخ عقب ذلك بقوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏وَمِن قَوْمِ مُوسَى‏}‏ الخ، والمعنى أن بعض هؤلاء الذين حكينا عنهم ما حكينا آمنوا وأنصفوا من أنفسهم يهدون الناس إلى أنه عليه الصلاة والسلام الرسول الموعود ويقولون لهم‏:‏ هذا الرسول النبي الأمي الذي نجده مكتوباً عندنا في التوراة والإنجيل ويعدلون في الحكم ولا يجورون ولكن أكثرهم ما أنصفوا ولبسوا الحق بالباطل وكتموه وجاروا في الأحكام فيكون ذكر هذه الفرقة تعريضاً بالأكثر‏.‏

واعترض بأن الذين آمنوا من قوم موسى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قليلين ولفظ أمته يدل على الكثرة، وأيضاً إن هؤلاء قد مر ذكرهم فيما سلف، وأجيب بأن لفظ الأمة قد يطلق على القليل لا سيما إذا كان له شأن بل قد يطلق على الواحد إذا كان كذلك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏ وبأن ذكرهم هنا لما أشير إليه من النكتة لا يأبى ذكرهم فيما سلف لغير تلك النكتة وتكرار الشيء الواحد لاحتلاف الأغراض سنة مشهورة في الكتاب على أنه قد قيل‏:‏ إنهم فيما تقدم قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم مهتدون وهنا قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم هادون فيحصل من الذكرين أنهم موصوفون بالوصفين‏.‏

نعم يبقى الكلام في نكتة الفصل ولعلها لا تخفى على المتدبر، وقيل هم قوم من بني إسرائيل وجدوا بين موسى ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام وهم الآن موجودون أيضاً، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال‏:‏ بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله تعالى لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء يستقبلون قبلتنا، وإليهم الإشارة كما قال ابن عباس بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إسراءيل اسكنوا الارض فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 104‏]‏ وفسر وعد الآخرة بنزول عيسى عليه السلام وقال‏:‏ إنهم ساروا في السرب سنة ونصفاً‏.‏

وذكر مقاتل كما روى أبو الشيخ أن الله تعالى أجرى معهم نهر أو جعل لهم مصباحاً من نور بين أيديهم وأن أرضهم التي خرجوا إليها تجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم ليلة المعراج ومعه جبريل عليه السلام فآمنوا به وعلمهم الصلاة، وعن الكلبي‏.‏ والضحاك‏.‏ والربيع أنه عليه الصلاة والسلام علمهم الزكاة وعشر سور من القرآن نزلت بمكة وأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وأقرؤه سلام موسى عليه السلام فرد النبي عليه الصلاة والسلام اللاسم، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال بينكم وبينهم نهر من رمل يجري، وضعف هذه الحكمة ابن الخازن وأنا لا أراها شيئاً ولا أظنك تجد لها سنداً يعول عليهم ولو ابتغيت نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا* موسى إِنّى اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي وبكلامي‏}‏ دون رؤيتي على ما يقوله نفاة الرؤية ‏{‏فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ‏}‏ بالتمكين ‏{‏وَكُنْ مّنَ الشاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ بالاستقامة في القيام بحق العبودية التي لا مقام أعلا منها

لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي

وبالشكر تزداد النعم كما نطق بذلك الكتاب ‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح‏}‏ أي أظهرنا نقوش استعداده في ألواح تفاصيل وجوده من الروح والقلب العقل والفكر والخيال فظهر فيها ‏{‏مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ‏}‏ أي بعزم لتكون من ذويه ‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏ أي أكثرها نفعاً وهي العزائم ‏{‏سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ أي عاقبة الذين لا يأخذون بذلك ‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الارض بِغَيْرِ الحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 146‏]‏ هم الذين في مقام النفس فيكون تكبرهم حجاباً لهم عن آيات الله تعالى وأما المتكبرون بالحق وهم الذي فنيت صفاتهم وظهرت عليهم صفات مولاهم فليسوا بمحجوبين ولا يعد تكبرهم مذموماً لأنه ليس تكبرهم حقيقة وإنما حظهم منه كونهم مظهراً له

‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الاخرة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 147‏]‏ حيث حجبوا بصفاتهم وأفعالهم حبطت أعمالهم فلا تقربهم شيئاً ‏{‏واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً‏}‏ صنعه لهم السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه لسوء استعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيما إذا كان ذهباً أو فضة، وكثير من الناس اليوم عبيد الدرهم والدينار وهما العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك العجل صار ذا لحم ودم وإليه الإشارة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار ذا روح بواسطة التراب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم ‏{‏وَأَلْقَى الالواح‏}‏ أي ذهل من شدة الغضب عنها وتجافي عن حكم ما فيها ونسيان ما يستحسن من الحلم مثلاً عند الغضب مما يجده كل أحد من نفسه ‏{‏وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ‏}‏ يجره إليه ظناً أنه قصر في كفهم‏.‏

‏{‏قَالَ ابن أُمَّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ ناداه بذلك لغلبة الرحمة عليه، وتأويل ذلك في الأنفس على ما قاله بعض المؤولين أن سامري الهوي بعد توجه موسى عليه السلام الروح لميقات مكالمة الحق اتخذ من حلى زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس معبوداً يتعجلون إليه له خوار يدعون الخلق به إلى نفسه ‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ‏}‏ بما ينفعهم ولا يهديهم سبيلاً إلى الحق ‏{‏اتخذوه وَكَانُواْ ظالمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ حيث عدلوا عن عبادة الحق إلى عبادة غيره في نظرهم ‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي ندموا عند جروع موسى الروح ‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا‏}‏ بجذبات العناية ‏{‏وَيَغْفِرْ لَنَا‏}‏ بأن يستر صفاتنا بصفاته سبحاته وتعالى‏:‏ ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 149‏]‏ رأس مال هذه النشأة وهو الاستعداد ‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ‏}‏ وهم الأوصاف الإنسانية ‏{‏غضبان‏}‏ مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا ‏{‏أَسَفاً‏}‏ على ما فات لها من عبادة الحق ‏{‏قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى‏}‏ حيث لم تسيروا سيري ‏{‏أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ‏}‏ بالرجوع إلى الفاني من غير أمره تعالى ‏{‏وَأَلْقَى الالواح‏}‏ أي ما لاح له من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي ‏{‏وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ‏}‏ وهو القلب يجره إليه قسراً، ‏{‏قَالَ ابن أُمَّ‏}‏ ناداه بذلك مع أنه أخوه من أبيه وهو عالم الأمر وأمه وهو عالم الخلق لأنهما في عالم الخلق ‏{‏إِنَّ القوم‏}‏ أي أوصاف البشرية ‏{‏استضعفونى‏}‏ عند غيبتك ‏{‏وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى‏}‏ يزيلون مني حياة استعدادي بالكلية

‏{‏فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ وهم وهم، وهذا ما يقتضيه مقام الفرق، قال‏:‏ رب اغفر لي ولأخي استر صفاتنا وأدخلنا في رحمتك بإفاضة الصفات الحقة علينا ‏{‏وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 151‏]‏ لأن كل رحمة فهو شعاع نور رحمتك ‏{‏إِنَّ الذين اتخذوا العجل‏}‏ أي عجل الدنيا إلهاً ‏{‏سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ‏}‏ وهو عذاب الحجاب وذلة في الحياة الدنيا باستعباد هذا الفاني المدني لهم ‏{‏وكذلك نَجْزِى المفترين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 152‏]‏ الذين يفترون على الله تعالى فيثبتون وجوداً لما سواه، ‏{‏والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ‏}‏ رجعوا إليه سبحانه وتعالى بمجاهدة نفوسهم وإفنائها إن ربك من بعدها لغفور فيستر صفاتهم ‏{‏رحيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 153‏]‏ فيفيض عليهم من صفاته ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح الربانية، وفي نسختها هدى إرشاد إلى الحق ‏{‏وَرَحْمَةٌ لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 154‏]‏ يخافون لحسن استعدادهم، ويقال في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لميقاتنا‏}‏ إن موسى عليه السلام اختار سبعين رجلاً من أشراف قومه ونجباءهم أهل الاستعداد والصفاء والإرادة والطلب والسلوك فلما أخذتهم الرجفة أي رجفة البدن التي هي من مبادي صعقة الفناء عند طريان بوارق الأنوار وظهوره طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وارتعاده وكثيراً ما تعرض هذه الحركة للسالكين عند الذكر أو سماع القرآن أو ما يتأثرون به حتى تكاد تتفرق أعضاؤهم، وقد شاهدنا ذلك في الخالدين من أهل الطريقة النقشبندية، وربما يعتريهم في صلاتهم صياح معه فمنهم من يستأنف صلاته لذلك ومنهم من لا يستأنف، وقد كثر الإنكار عليهم وسمعت بعض المنكرين يقولون‏:‏ إن كانت هذه الحالة مع الشعور والعقل فهني سوء أدب ومبطلة للصلاة قطعاً وإن كانت مع عدم شعور وزوال عقل فهي ناقضة للوضوء ونراهم لا يتوضؤون، وأجيب بأنها غير اختيارية مع وجود العقل والشعور، وهي كالعطاس والسعال ومن هنا لا ينتقض الوضوء بل ولا تبطل الصلاة، وقد نص بعض الشافعية أن المصلي لو غلبه الضحك في الصلاة لا تبطل صلاته ويعذر بذلك فلا يبعد أن يلحق ما يحصل من آثار التجليات الغير الاختيارية بما ذكر ولا يلزم من كونه غير اختياري كونه صادراً من غير شعور فإن حركة المرتعش غير اختيارية مع الشعور بها، وهو ظاهر فلا معنى للإنكار‏.‏ نعم كان حضرة مولانا الشيخ خالد قدس سره يأمر من يعتريه ذلك من المريدين بالوضوء واستئناف الصلاة سداً لباب الإنكار، والحق أن ما يعتري هذه الطائفة غير ناقض الوضوء لعدم زوال العقل معه لكنه مبطل للصلاة لما فيه من الصياح الذي يظهر به حرفان مع أمور تأباها الصلاة ولا عذر لمن يعتريه ذلك إلا إذا ابتلى به بحيث لم يخل زمن من الوقت يسع الصلاة بدونه فإنه يعذر حينئذ ولا قضاء عليه إذا ذهب مه ذلك الحال كمن به حكة لا يصبر معها على عدم الحك‏.‏

وقد نص الجد عليه الرحمة في حواشيه على شرح الحضرمية للعلامة ابن حجر في صورة ابتلى بسعال مزمن على نحو ذلك، ثم قال‏:‏ فرع لو ابتلى بذلك وعلم من عادته أن الحمام يسكنه عنه مدة تسع الصلاة وجب عليه دخوله حيث وجد أجرة الحمام فاضلة عما يعتبر في الفطرة وإن فاتته الجماعة وفضيلة أول الوقت انتهى‏.‏ نعم ذكر عليه رحمة الله تعالى في الفعل الكثير المبطل للصلاة وهو ثلاثة أفعال أنه لو ابتلى بحركة اضطرارية نشأ عنها عمل كثير فمعذور، وقال أيضاً‏:‏ إنه لا يضر الصوت الغير المشتمل على النطق بحرفين متواليين من أنف أو فم وإن اقترنت به همهمة شفتي الأخرس ولو لغير حاجة وإن فهم الفطن كلاماً أو قصد محاكاة بعضهم أصوات الحيوانات وإن لم يقصد التلاعب وإلا بطلت، وينبغى التحري في هؤلاء القوم فإن حالهم في ذلك متفاوت لكن أكثر ما شاهدناه على الطراز الذي ذكرناه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من الكتب الفقهية‏.‏ قال موسى‏:‏ ‏{‏رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى‏}‏ وذلك من شدة غلبته الشوق، و‏{‏لَوْ‏}‏ هذه للتمني، أتهلكنا بعذاب الحجاب والحرمان بما فعل السفهاء من عبادة العجل إن هي إلا فتنتك لا مدخل فيها لغيرك، وهذا مقتضى مقام تجلي الأفعال، فاغفر لنا ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت ذنوب أفعالنا، وارحمنا بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الآنية بوجودك، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وهي حسنة الاستقامة بالبقاء بعد الفناء، وفي الآخرة حسنة المشاهدة، والكلام في بقية الكلام لا يخفى على من له أدنى ذوق‏.‏ خلا أن بعضهم أول العذاب في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ بعذاب الشوق المخصوص الذي يصيب أهل العناية من الخواص وهو الرحمة التي لا يكتنه كنهها ولا يقدر قدرها وإنها لأعز من الكبريت الأحمر، وأهل الظاهر يرونه بعيداً والقوم يقولون نراه قريباً، وقالوا‏:‏ الأمي نسبة إلى الأم لكن على حد أحمري، وقيل‏:‏ للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه أم الموجودات وأصل المكنونات، واختير هذا اللفظ لما فيه من الإشارة إلى الرحمة والشفقة وهو الذي جاء رحمة للعالمين وإنه عليه الصلاة والسلام لأشفق على الخلق من الأم بولدها إذ له صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفر من التخلق بأخلاق الله تعالى وهو سبحانه أرحم الراحمين، وذكروا أن أتباعه من حيث النبوة الخواص ومن الأمية خواص الخواص ومن حيث الرسالة هؤلاء المذكورون كلهم والعوام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباعه صلى الله عليه وسلم في سائر شؤونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏وقطعناهم‏}‏ أي قوم موسى عليه السلام لا الأمة المذكورة كما يوهمه القرب ‏{‏وقطع‏}‏ يقرأ مشدداً ومخففاً والأول هو المتواتر ويتعدى لواحد وقد يضمن معنى صير فيتعدى لاثنين فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقطعناهم اثنتى عَشْرَةَ‏}‏ حال أو مفعول ثان، أي فرقناهم معدودين بهذا العدد أو صيرناهم اثنتي عشرة أمة يتميز بعضها عن بعض، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أسباطا‏}‏ كما قال ابن الحاجب في «شرح المفصل» بدل من العدد لا تمييز له وإلا لكانوا ستة وثلاثين، وعليه فالتمييز محذوف أي فرقة أو نحوه، قال الحوفي‏:‏ إن صفة التمييز أقيمت مقامه والأصل فرقة اسباطا، وجوز أن يكون تمييزاً لأن مفرد تأويلاً، فقد ذكروا أن السبط مفرداً ولد الولد أو ولد البنت أو الولد أو القطعة من الشيء أقوال ذكرها ابن الأثير، ثم استعمل في كل جماعة من بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، ولعله تسمية لهم باسم أصلهم كتميم، وقد يطلق على كل قبيلة منهم أسباط أيضاً كما غلب الأنصار على جمع مخوص فهو حينئذ بمعنى الحي والقبيلة فلهذا وقع موقع المفرد في التمييز وهذا كما ثنى الجمع في قول أبي النجم يصف رمكة تعودت الحرب‏:‏

تبقلت في أول التبقل *** بين رماحي مالك ونهشل

وتأنيث اثنتي مع أن المعدود مذكر وما قبل الثلاثة يجري على أصل التأنيث والتذكير لتأويل ذلك بمؤنث وهو ظاهر مما قررنا، وقرأ الأعمل وغيره ‏{‏اثنتى عَشْرَةَ‏}‏ بكسر الشين وروى عنه فتحها أيضاً والكسر لغة تميم والسكون لغة الحجاز، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أُمَمًا‏}‏ بدل بعد بدل من اثنتي عشرة لا من أسباط على تقدير أن يكون بدلاً لأنه لا يبدل من البدل، وجوز كونه بدلاً منه إذا لم يكن بدلاً ونعتاً إن كان كذلك أو لم يكن ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ‏}‏ حين استولى عليه العطش في التيه ‏{‏أَنِ اضرب بّعَصَاكَ الحجر‏}‏ تفسير لفعل الإيحاء ‏{‏فَانٍ‏}‏ بمعنى أي، وجوز أبو البقاء كونها مصدرية ‏{‏فانبجست‏}‏ أي انفجرت كمات قال ابن عباس وزعم الطبرسي أن الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة، والتعبير بهذا تارة وبالأخرى أخرى باعتبار أول الخروج وما انتهى إليه والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي فضرب فانبجست وحذف المعطوف عليه لعدم الالباسا وللإشارة إلى سرعة الامتقال حتى كأن الإيحاء وضربه أمر واحد وأن الانبجاس بأمر الله تعالى حتى كأن فعل موسى عليه السلام لا دخل فيه‏.‏

وذكر بعض المحققين أن هذه الفاء على ما قرر فصيحة وبعضهم يقدر شرطاً في الكلام فإذا ضربت فقد انبجست ‏{‏مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا‏}‏ وهو غير لائق بالنظم الجليل ‏{‏قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ‏}‏ أي سبط، والتعبير عنهم بذلك للإيذان بكثرة كل واحد من الأسباط، وأنا إما جمع أو اسم جمع، وذكر السعد أن أهل اللغة يسمون اسم الجمع جمعاً، و‏{‏عِلْمٍ‏}‏ بمعنى عرف الناصب مفعولاً واحداً أي قد عرف ‏{‏مَّشْرَبَهُمْ‏}‏ أي عينهم الخاصة بهم، ووجه الجمع ظاهر ‏{‏وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام‏}‏ أي جعلنا ذلك بحيث يلقى عليهم ظله ليقيهم من حر الشمس وكان يسير يسيرهم ويسكن بإقامتهم ‏{‏وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى‏}‏ أي الترنجبين والسماني فكان الواحد منهم يأخذ ما يكفيه من ذلك ‏{‏كُلُواْ‏}‏ أي قلنا أو قائلين لهم كلوا‏.‏

‏{‏مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم‏}‏ أي مستلذاته، و‏{‏مَا‏}‏ موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى ‏{‏وَمَا ظَلَمُونَا‏}‏ عطف على محذوف للإيجاز والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح أي فظلموا بأن كفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بالكفر إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم المفعول لإفادة القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفي الكلام من التهكم والإشارة إلى تماديهم على ما هم فيه ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏161‏]‏

‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ‏}‏ معمول لا ذكر، وإيراد الفعل هنا مبنياً للمفعول جرياً على سنن الكبرياء مع الإيذان بأن الفاعل غني عن التصريح أي اذكر لهم وقت قولنا لأسلافهم ‏{‏اسكنوا هذه القرية‏}‏ القريبة منكم وهي بيت المقدس أو أريجاء، والنصب مبني على المفعولية كسكنت الدار على الظرفية اتساعاً والتعبير بالسكنى هنا للإيذان بأن المأمور به في البقرة الدخول بقصد الإقامة أي أقيموا في هذه القرية ‏{‏وَكُلُواْ مِنْهَا‏}‏ أي مطاعمها وثمارها أو منها نفسها على أن من تبعيضية أو ابتدائية ‏{‏حَيْثُ شِئْتُمْ‏}‏ أي من نواحيها من غير أن يزاحمكم أحد؛ وجيء بالواو هنا وبالفاء في البقرة لأنه قيل هناك ادخلوا ذكر التعقيب معه وهنا اسكنوا والسكنى أمر ممتد والأكر معه لا بعده، وقيل‏:‏ إن إذا تفرع المسبب عن السبب اجتمعا في الوجود فيصح الاتيان بالواو والفاء، وفيه أن هذا إنما يدل على صحة العبارتين وليس السؤال عن ذلك، وذكر ‏{‏رَغَدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 58‏]‏ هناك لأن الأكل في أول الدخول يكون ألذ وبعد السكنى واعتباره لا يكون كذلك وقيل‏:‏ إنه اكتفى بالتعبير باسكنوا عن ذكره لأن الأكل المستمر من غير مزاحم لا يكون إلا رغداً واسعاً، وإلى الأول ذهب صاحب اللباب، ويرد على القولين أنه ذكر ‏{‏رَغَدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 35‏]‏ مع الأمر بالسكنى في قصة آدم عليه السلام، ولعل الأمر في ذلك سهل ‏{‏وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّدًا‏}‏ مر الكلام فيه في البقرة غير أن ما فيها عكس ما هنا في التقديم والتأخير ولا ضير في ذلك لأن المأمور به هو الجمع بين الأمرين من غير اعتبار الترتيب بينهما، وقال القطب‏:‏ فائدة الاختلاف التنبيه على حسن تقديم كل من المذكورين على الآخر لأنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار الخشوع والخشوع لم يتفاوت الحال في التقديم والتأخير ‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ جزم في جواب الأمر‏.‏ وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ ويعقوب ‏{‏لَّمْ تَغْفِرْ‏}‏ بالتاء والبناء للمفعول و‏{‏خيآتكم‏}‏ بالرفع والجمع غير ابن عامر فإنه وحد، وقرأ أبو عمرو ‏{‏لَكُمْ خطاياكم‏}‏ كما في صورة ‏[‏البقرة‏:‏‏]‏، وبين القطب فائدة الاختلاف بين ما هناك وبين ما هنا على القراءة المشهورة بأنها الإشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفور بعد الاتيان بالمأمور به، وطرح الواو هنا من قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سَنَزِيدُ المحسنين‏}‏ إشارة إلى أن هذه الزيادة تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به كما قيل‏.‏

والمراد أن امتثالهم جازاه الله تعالى بالغفران وزاد عليه وتلك الزيادة فضل محض منه تعالى فقد يدخل في الجزاء صورة لترتبه على فعلهم وقد يخرج عنه لأن زيادة على ما استحقوه، ولذا قرن بالسين الدالة على أنه وعد وتفضل، ومفعول نزيد محذوف أي ثواباً وزيادة منهم في قوله تعالى شأنه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏162‏]‏

‏{‏فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

‏{‏فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ‏}‏ لزيادة البيان أي بدل الذي ظلموا من هؤلاء بما أمروا به من التوبة والاستغفار حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعه ‏{‏قَوْلاً‏}‏ آخر مما لا يخير فيه ‏{‏غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ‏}‏ وأمروا بقوله و‏{‏غَيْرِ‏}‏ نعت للقول وصرح بالمغايرة مع دلالة التبديل عليها تحقيقاً للمخالفة وتنصيصاً على المغايرة من كل وجه ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ‏}‏ إثر ما فعلوا ما فعلوا من غير تأخير ‏{‏رِجْزًا مّنَ السماء‏}‏ عذاباً كائناً منها وهو الطاعون في رواية‏.‏

‏{‏بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ‏}‏ أي بسبب ظلمهم المستمر السابق واللاحق، وهذا بمعنى ما في البقرة لأن ضمير عليهم للذين ظلموا والإرسال من فوق إنزال، والتصريح بهذا التعليل لما أن الحكم هنا مرتب على المضمر دون الموصول بالظلم كما في البقرة، وأما التعليل بالفسق بعد الإشعار بعلية الظلم هناك فللإيذان بأن ذلك فسق وخروج عن الطاعة وغلو في الظلم وأن تعذيبهم بجميع ما ارتكبوا من القبائح كما قيل وقال القطب في وجه المغايرة‏:‏ إن الإرسال مشعر بالكثرة بخلاف الإنزال فكأنه أنزل العذاب القليل ثم جعل كثيراً وإن الفائدة في ذكر الظلم والفسق في الموضعين الدلالة على حصولهما فيهم معاً، وقد تقدم لك في وجوه المغايرة بين آية البقرة وهذه الآية ما ينفعك تذكره فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏163‏]‏

‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

‏{‏واسألهم‏}‏ عطف على اذكر المشار إليه فيما تقدم آنفاً، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وضمير الغيبة لمن بحضرته عليه الصلاة والسلام من نسل اليهود أي واسأل اليهود المعاصرين لك سؤال تقريع وتقرير بتقدم تجاوزهم لحدود الله تعالى، والمراد إعلامهم بذلك لأنهم كانوا يخفونه، وفي الإطلاع عليه مع كونه عليه الصلاة والسلام ليس ممن مارس كتبهم أو تعلمه من علمائهم ما يقضي بأن ذلك عن وحي فيكون معجزة شاهدة عليهم ‏{‏وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية‏}‏ أي عن خبرها وحالها وما وقع بأهلها من ثالثة الأثافي، والمراد بالسؤال عن ذلك بما يعم السؤال عن النفس وعن الأهل أو الكلام على تقدير مضاف، والمراد عن حال أهل القرية، وجوز التجوز فيها، وهي عند ابن عباس وابن جبير إيلة قرية بين مدين والطور‏.‏

وعن ابن شهاب هي طبرية، وقيل‏:‏ مدين وهي رواية عن الحبر، وعن ابن زيد أنها مقتاً بين مدين وعينونا ‏{‏التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر‏}‏ أي قريبة منه مشرفة على شاطئه ‏{‏إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت‏}‏ أي يظلمون ويتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم البست أو بتعظيمه، وإذ بدل من المسؤول عنه بدل اشتمال أو ظرف للمضاف المصدر، قيل‏:‏ واحتمال كونه ظرفاً لكانت أو حاضرة ليس بشيء إذ لا فائدة بتقييد الركون أو الحضور بوقت العدوان وضمير يعدون للأهل المقدر أو المعلوم من الكلام، وقيل‏:‏ إلى القرية على سبيل الاستخدام، وقرىء ‏{‏يَعْدُونَ‏}‏ بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدار ونقلت حركتها إلى العين ‏{‏ويعدون‏}‏ من الإعداد حيث كانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم منهيون عن الاشتغال فيه بغير العبادة ‏{‏إِذْ تَأْتِيهِمْ‏}‏ ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل، وإلى الأول ذهب أكثر المعربين، وهو الأولى لأن السؤال عن عدوانهم أبلغ في التقريع، وحيتان جمع حوت أبدلت الواو ياءاً لسكونها وانكسار ما قبلها كنون ونينات لفظاً ومعنى وإضافتها إليهم باعتبار أن المراد الحيتان الكائنة في تلك الناحية التي هم فيها، وقيل‏:‏ للإشعار باختصاصها بهم لاستقلالها بما لا يكاد يوجد في سائر أفراد الجنس من الخواص الخارقة للعادة، ولا يخفى بعده ‏{‏حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ‏}‏ ظرف لتأتيهم أي تأتيهم يوم تعظيمهم لأمر السب، وهو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه، وقيل‏:‏ اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه، ويؤيد الأول قراءة عمرو بن عبد العزيز ‏{‏يَوْمٍ‏}‏، وكذا التفي الآتي ‏{‏سَبْتِهِمْ شُرَّعًا‏}‏ أي ظاهرة على وجه الماء كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قريبة من الساحل، وهو جمع شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف، وفي الشرع معنى الإظهار والتبيين، وقيل‏:‏ حيتان شرع رافعة رؤسها كأنه جعل ذلك إضهاراً وتبييناً، وقيل‏:‏ المعنى متتابعة ونسب إلى الضحاك، والظاهر أنها ظاهرة وهو نصب على الحال من الحيتان ‏{‏وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ‏}‏ أي لا يراعون أمر السب وهو على حد قوله‏:‏

على لا حب لا يهتدي بمناره *** إذ المقصود انتفاء السبت والمراعاة‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ‏{‏لاَ يَسْبِتُونَ‏}‏ بضم حرف المضارعة من أسبت إذا دخل في السبت كاصبح إذا دخل في الصباح، وعن الحسن أنه قرأ لا يسبتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت، وقرىء ‏{‏لاَ يَسْبِتُونَ‏}‏ بضم الباء والظرف متعلق بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْتِيهِمْ‏}‏ أي لا تأتيهم يوم لا يسبتون كما كانت تأتيهم يوم السبت حذراً من صيدهم لاعتيادها أحوالهم وأن ذلك لمحض تقدير العزيز العليم، وتغيير البسك حيث قدم الظرف على الفعل ولم يعكس لما أن الإتيان يوم سبتهم مظنة كما قيل‏:‏ لأن يقال فماذا حالها يوم لا يسبتون‏؟‏ فقيل‏:‏ يوم لا يسبتون لا تأتيهم ‏{‏كذلك نَبْلُوهُم‏}‏ أي نعاملهم معاملة المختبرين لهم ليظهر منهم ما يظهر فنؤاخذهم به، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحشار صورتها والتعجيب منها، والإشارة إما إلى الابتلاء السابق أو إلى الابتلاء المذكور بعد كما مر غير مرة؛ وقيل‏:‏ الإشارة إلى الاتيان يوم السبت وهي متصلة بما قبل أي لا تأتيهم كذلك الاتيان يوم السبت، والكاف في موضع نصب على الحال عند الطبرسي، وجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع صفة لمصدر مقدر أي إتياناً كائناً كذلك، وجملة نبلوهم استئناف مبني على السؤال عن حكم اختلاف حال الحيتان بالاتيان تارة وعدمه أخرى ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ أي بسبب فسقهم المستمر في كل ما يأتون ويذرون، وهو متعلق بماعنده، وتعلق إذ يعدون بنبلوهم وبما يبعدون على معنى نبلوهم وقت العدوان بالفسق مما لا ينبغي تخريج كتاب الله تعالى الجليل عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتِ‏}‏ عطف على ‏{‏إذ يعدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ مسوق لبيان تماديهم في العدوان وعدم انزجارهم عنه بعد العظات والإنذارات‏.‏

قال العلامتان الطيبي والتفتازاني‏:‏ ولا يجوز أن يكون معطوفاً على ‏{‏إذ تأتيهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ وإن كان أقرب لفظاً لأنه إما بدل أو ظرف فيلزم أن يدخل هؤلاء القائلون في حكم أهل العدوان وليس كذلك، وهذا على ما قيل على تقدير الظرفية ظاهر، وأما على تقدير الإبدال فلأن البدل أقرب إلى الاستقلال، واستظهر في بيان وجه ذلك ان زمان القول بعد زمان العدوان ومغاير له واعتبار كونه ممتدا كسنة مثلا يقع فيه ذلك كله تكلف من غير مقتض، والقول بأن العطف على ذاك يشعر أو يوهم أن القائلين من العادين في السبت لا من مطلق أهل القرية فيه ما فيه ‏{‏أُمَّةٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي جماعة من صلحائهم الذين لم يألوا جهداً في عظتهم حين يئسوا من احتمال القبول لآخرين لم يقلعوا عن التذكير رجاء النفع والتأثير ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ‏}‏ أي مستأصلهم بالكلية ومطهر وجه الأرض منهم ‏{‏أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا‏}‏ دون الاستئصال بالمرة، وقيل مهلكهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة لعدم إقلاعهم عما هم عليه من الفسق والترديد لمنع الخلو على هذا، وإيثار صيغة اسم الفاعل في الشقين للدلالة على تحقق كل من الاهلاك والتعذيب وتقررهما البتة كأنهما واقعان، وإنما قالوا ذلك مبالغة في أن الوعظ لا ينجع فيهم إذ المقصود لا تعظوا أو أتعظون فعدل عنه إلى السؤال عن السبب لاستغرابه لأن الأمر العجيب لا يدري سببه أو سؤالا عن حكمة الوعظ ونفعه، وقيل‏:‏ إن هذا تقاول وقع بين الصلحاء الواعظين كأنه قال بعضهم لبعض‏:‏ لم نشتغل بما لا يفيد، ويحتمل على كلا القولين أن ذلك صدر من القائل بمحضر من القوم فيكون متضمناً لحثهم على الاتعاظ فإن بت القول بهلاكهم أو عذابهم مما يلقي في قلوبهم الخوف والخشية، وقيل قائلو ذلك المعتدون في السبت قالوا‏:‏ تهكما بالناصحين المخوفين لهم بالهلاك والعذاب، وفيه بعد كما ستقف عليه قريباً إن شاء الله تعالى ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي المقول لهم ذلك ‏{‏مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ‏}‏ أي نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه مفعول له وهو الأنسب بظاهر قولهم‏:‏ لم تعظون أو نعتذر معذرة على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، وقيل‏:‏ هو مفعول به للقول وهو وإن كان مفرداً في معنى الجملة لأنه الكلام الذي يعتقذر به‏.‏ والمعذرة في الأصل بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب، وقال الأزهري‏:‏ إنه بمعنى الاعتذار، وعداه بإلى لتضمنه معنى الانهاء والإبلاغ، وفي إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع تعريض بالسائلين، وهذا الجواب على القولين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل إنه من تلقى السائل بغير ما يترقب فهو من الأسلوب الحكيم، وقرأ من عدا حفص‏.‏

والمفضل ‏{‏مَعْذِرَةً‏}‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتنا معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ عطف على معذرة أي ورجاء أن يتقوا بعض التقاة فإن اليأس المحقق لا يحصل إلا بالهلاك، قال شيخ الإسلام‏:‏ وهذا صريح في أن القائلين لم تعظون الخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب اه‏.‏

وقد يوجه ذلك على ذلك القول بأنه التفات أو مشاكلة لتعبيرهم عن أنفسهم في السؤال بقوم وإما لجعله باعتبار غير الطائفة القائلين إلا أن كل ذلك خلاف الظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏165‏]‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏165‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ‏}‏ أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضاً كلياً، فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية، وهو خلاف الظاهر‏.‏

والنسيان مجاز عن الترك، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة، وجوز أن يكون مجازاً مرسلاً لعلاقة السببية، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعضهم المحققين لأنه غير واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه انجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى‏:‏

‏{‏أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء‏}‏ إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم وظاهر الآية ترتب الانجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان والتذكير، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل‏:‏ فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين، وعنوان النهي عن السوء شامل للذين قالوا ‏{‏لم تعظون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 164‏]‏ الخ وللمقول لهم ذلك، أما شموله للمقول لهم فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضاً إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا وذلك لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهى وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه النهي وربما وجب الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثاً منك ولم يكن إلا سبباً للتلهي بك، ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ لا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء‏}‏ وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أي بالاعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع أنه الغواص فقال له عكرمة‏:‏ جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم عليه وقالوا ما قالوا وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال‏:‏ نجت الساكتة، ونسب الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ أي شديد وفسره الحبر بما لا رحمة فيه ويرجع إلى ما ذكر، وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة، والأكثرون على كونه وصفاً من بؤس يبؤس بأساً إذا اشتد‏.‏

وقال الراغب‏:‏ البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقرة والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية، وقرأ أبو بكر ‏{‏بيئس‏}‏ على فيعل كضيغم وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء، والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسما أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد، ومن هنا قيل في قراءة عاصم في رواية عنه ‏{‏بيئس‏}‏ بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويخففها أن المهموز أخو المعتل، وقرأ ابن عامر ‏{‏بالالقاب بِئْسَ‏}‏ بكسر الباء وسكون الهمزة على أن أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة، وقرأ نافع ‏{‏بيس‏}‏ على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وانكسار ما قبلها، وقيل‏:‏ إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل دم جعلت اسماً كما في قيل وقال، والمعنى بعذاب مذموم مكروه، وقرىء ‏{‏بيس‏}‏ كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم ادغامها في الياء، وقيل‏:‏ على أنه من البؤس بالواو وأصله بيوس كميوت فأعل اعلاله و‏{‏بيس‏}‏ على التخفيف كهين و‏{‏بائس‏}‏ بزنة اسم الفاعل أي ذو بأس وشدة، وقرىء غير ذلك، وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات إلى ست وعشرين، وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل ‏{‏السماء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم المستمر، ولا مانع من أن يكون ذلك سبباً للأخذ كما كان سبباً للابتداء وكذا لا مانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضاً، ولم يكتف بالأولى لما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏166‏]‏

‏{‏فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏166‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا عَتَوْاْ‏}‏ أي تكبروا ‏{‏عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ أي عن ترك ذلك ففي الكلام تقدير مضاف إذ التكبر والأباء عن المنهى عنه لا يذم ‏{‏قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين‏}‏ صاغرين أذلاء مبعدين عن كل خير والأمر تكويني لا تكليفي لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏ في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل، والظاهر أن الله تعالى أوقع بهم نكالا في الدنيا غير المسخ فلم يقلعوا عما كانوا عليه فمسخهم قردة‏.‏

وجوز أن يكون المراد بالعذاب البئيس هو المسخ وتكون هذه الآية تفصيلاً لما قبلها‏.‏ روي عن ابن عباس أن اليهود إنما افترض عليهم اليوم الذي افترض عليكم وهو يوم الجمعة فخالفوا إلى يوم السبت واختاروه فحرم عليهم الصيد فيه وابتلوا به فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً حتى لا يرى الماء من كثرتها فمكثوا ما شاء الله تعالى لا يصيدون ثم أتاهم الشيطان فقال‏:‏ إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض والشبكات فكانوا يسوقون الحيتان إليها فيه ثم يأخذونها يوم الأحد، وفي رواية أن رجلاً منهم أخذ حوتاً فحزمه بخيط ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه فيه وتركه في الماء فلما كان الغد جاء فأخذخ وأكله فلاموه على ذلك فلما لم يأته العذاب أخذ في السبت القابل حوتين وفعل ما فعل ولم يصبه شيء فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم تجاسروا فأخذوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من اثنى عشر ألفا أو من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثاً كما قص الله تعالى فقال المسلمون للمعتدين نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب وكانت القصة في زمن داود عليه السلام فلعنهم فأصبح المسلمون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا‏:‏ إن لهؤلاء لشأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فإذا القوم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الانس ولم تعرف الإنس انسابهم منها فجعلت تأتي إلى نسيبها فتشم ثيابه وتبكي فيقول‏:‏ ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم ثم ماتوا بعد ثلاث‏.‏ وعن قتادة أن الشبان صاروا قردة والشيوخ خنازير، وعن مجاهد أنه مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفعهم الحق‏.‏ وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال‏:‏ كان حوتاً حرمه الله عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله تعالى عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد فجعلوا يهمون ويمسكون وقلما رأيت أحداً أكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعة حتى أخذوه فأكلوا والله أوخم أكله أكلها قوم أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذاباً في الآخرة وايم الله تعالى ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله تعالى من قتل رجل مؤمن وللمؤمن أعظم حرمة عند الله سبحانه من حوت ولكن الله عز وجل جعل موعد قوم الساعة والساعة أدهى وأمر‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أنه كان على شاطىء البحر الذي هم عنده ضمان من حجارة مستقبلان الماء يقال لأحدهما لقيم وللآخرة لقمانة فأوحى الله تعالى إلى السمك إن حج يوم السبت إلى الصنمين وأوحى إلى أهل القرية إني قد أمرت السمك أن يحجوا إلى الصنمين يوم السبت فلا تتعرضوه فيه فإذا ذهب اليوم فشأنكم به فصيدوه فابتلى القوم ووقع منهم ما مسخوا به قردة وفي القلب من صحة هذا الأثر شيء ولعله لا صحة له كما لا يخفى على من يعرف معنى الحج من المصلين، ويشبه هذين الصنمين عين حق لأن قرب جزيرة الحديثة من العراق وهي قريبة من شاطىء الفرات السمك يزورها في أيام مخصوصة من السنة حتى يخيل أنه لم يبق في بطن الفرات حوت إلا قذف إليها فيصيد أهل ذلك الصقع منه ما شاء الله تعالى وينقلونه إلى الجزائر والقرى القريبة منهم كألوس وحبة وعانات وهيت ثم ينقطع فلا ترى سمكة في العين بعد تلك الأيام إلى مثلها من قابل وسبحان الفعال لما يريد، واستدل بعض أهل العلم بقصة هؤلاء المعتدين على حرمة الحيل في الدين، وأيد ذلك بما أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ‏}‏ منصوب بمضمر معطوف على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واسئلهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ وتأذن تفعل من الاذن وهو بمعنى آذن أي أعلم والتفعل يجيء بمعنى الافعال كالتوعد والايعاد، وإلى هذا يؤول ما روي عن ابن عباس من أن المعنى قال ربك، وفسره، بعضهم بعزم وهو كناية عنه أو مجاز لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في الفعل والترك ثم يجزم فهو يطلب من النفس الاذن فيه، وفي الكشف لو جعل بمعنى الاستئذان دون الايذان كأنه يطلب الاذن من نفسه لكان وجهاً، وحيث جعل بمعنى عزم وكان العازم جازماً فسر عزم بجزم وقضى فافاد التأكيد فلذا أجرى مجرى القسم، وأجيب بما يجاب به وهو هنا ‏{‏رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ‏}‏ وجاء عزمت عليك لتفعلن، ولا يرد على هذا أنه مقتضى لجواز نسبة العزم إليه تعالى وقد صرح بمنع ذلك لأن المنع مدفوع فقد ورد عزمة من عزمات الله تعالى ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ أي اليهود لا المعتدين الذين مسخوا قردة إذ لم يبقوا كما علمت، ويحتمل عود الضمير عليهم بناء على ما روي عن الحسن‏.‏ والمراد حينئذ هم وأخلافهم، وعوده إلى اليهود والنصارى ليس بشيء وإن روي عن مجاهد، والجار متعلق بيبعثن على معنى يسلط عليهم البتة ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ أي إلى انتهاء الدنيا وهو متعلق بيبعث، وقيل‏:‏ بتأذن وليس بالوجه ولا يصح كما لا يخفى تعلقه بالصلة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن يَسُومُهُمْ‏}‏ يذيقهم ويوليهم ‏{‏سُوء العذاب‏}‏ كالادلال‏.‏ وضرب الجزية‏.‏ وعدم وجود منعة لهم‏.‏ وجعلهم تحت الأيدي وغير ذلك من فنون العذابد وثد بعث الله تعالى عليهم بعد سليمان عليه الصلاة والسلام بخت نصر فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزية عليهم فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر‏.‏

ولا ينافي ذلك رفعها عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام لأن ذلك الوقت ملحق بالآخرة لقربه منها أو لأن معنى رفعه عليه السلام إياها عنهم أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام ويخيرهم بينه وبين السيف فالقوم حينئذ إما مسلمون أو طعمة لسيوفهم فلا اسكال، وما يحصل لهم زمن الدجال مع كونه ذلافي نفسه غمامة صيف على أنهم ليسوا يهود حين التبعية ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب‏}‏ لما شاء سبحانه أن يعاقبه في الدنيا ومنهم هؤلاء، وقيل‏:‏ في الآخرة، وقيل‏:‏ فيهما وَإِنَّهُ لَغَفُورُ رحيمٌ‏}‏ لمن تاب وآمن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏168‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏‏}‏

‏{‏وقطعناهم‏}‏ أي فرقنا بني اسرائيل أو صيرناهم ‏{‏فِى الارض‏}‏ وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تكملة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة وهذا من مغيبات القرآن كالذي تضمنته الآية قبل، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أُمَمًا‏}‏ إما مفعول ثان لقطعنا وإما حال من مفعوله ‏{‏مّنْهُمُ الصالحون‏}‏ وهم كما قال الطبري من آمن بالله تعالى ورسوله وثبت على دينه قبل بعث عيسى عليه الصلاة والسلام وقيل هم الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ونسب ذلك إلى ابن عباس‏.‏ ومجاهد، وقيل‏:‏ هم الذين وراء الصين وهو عندي وراء الصين، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم والصالحون مبتدأ، وجوز أن يكون فاعلاً للظرف والجملة في موضع النصب صفة لأمم على الاحتمالين، وجوز أن تكون في موضع الحال وهي بدل من أمم على الاحتمال الثاني وأن تكون صفة موصوف مقدر هو البدل على الأول أي قوماً منهم الصالحون ‏{‏وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك‏}‏ أي منحطون عن أولئك الصالحين غير بالغين منزلتهم في الصلاح وهم الذين امتثلوا بعض الأوامر وخالفوا بعضاً مع كونهم مؤمنين، وقيل‏:‏ هم الكفرة منهم بناء على أن المراد بالصلاح الإيمان، وقيل‏:‏ المراد بهم ما يشمل الكفرة والفسقة، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم و‏{‏دُونِ‏}‏ على ما ذكره الطبرسي مبتدأ إلا أنه بقي مفتوحاً لتمكنه في الظرفية مع إضافته إلى المبنى، ومثله على قول أبي الحسن ‏{‏بَيْنِكُمْ‏}‏ في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ أو المبتدأ محذوف والظرف صفته أي ومنهم أناس أو فرقة دون ذلك، ومن المشهور عند النحاة أن الموصوف بظرف أو جملة يطرد حذفه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه كما في منا أقام ومنا ظعن، ومحط الفائدة الانقسام إلى أن هؤلاء منقسمون إلى قسمين، ومن الناس من تكلف في مثل هذا التركيب لجعل الظرف الأول صفة مبتدأة محذوف، وجعل الظرف الثاني خبراً لما ظنه داعياً لذلك، وليس بشيء، والإشارة للصالحين، وقد ذكروا أن اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع وقد مرت الإشارة إليه، وقيل‏:‏ أشير به إلى الصلاح كما يقتضيه ظاهر الأفراد ويقدر حينئذ مضاف وهو أهل مثلا ‏{‏وبلوناهم بالحسنات‏}‏ الخصب والعافية ‏{‏والسيئات‏}‏ الجدب والشدة ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ أي يتوبون عما كانوا عليه مما نهوا عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏169‏]‏

‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ أي المذكورين، وقيل‏:‏ الصالحين ‏{‏خَلْفٌ‏}‏ أي بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل‏:‏ هو اسم جمع وهو مراد من قال‏:‏ إنه جمع وهو شائع في الشر، ومنه سكت ألفاً ونطق خلفاً والخلف بفتح اللام في الخير وادعى بعضهم الوضع لذلك، وقيل‏:‏ هما بمعنى وهو من يخلف غيره صالحاً كان أو طالحاً، ومن مجيء الساكن في المدح قول حسان‏:‏

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا *** لأولنا في طاعة الله تابع

ومن مجيء المتحرك في الذم قول لبيد‏:‏

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وعن البصريين أنه يجوز التحريك والسكون في الردى وأما الجيد فبالتحريك فقط ووافقهم أهل اللغة إلا القراء وأبا عبيدة واشتقاقه إما من الخلافة أو من الخلوف وهو الفساد والتغير ومنه خلوف فم الصائم، وقال أبو حاتم‏:‏ الخلف بالسكون الأولاد الواحد والجمع فيه سواء والخلف بالفتح البدل ولدا كان أو غريباً؛ والأكثرون على أن المراد بهؤلاء الخلف الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يصح تفسير الصالحين بمن آمن به عليه الصلاة والسلام، والظاهر أنهم من اليهود وعن مجاهد أنهم النصارى وليس بذاك ‏{‏وَرِثُواْ الكتاب‏}‏ أي التوراة والوراثة مجاز عن كونها في أيديهم وكونهم واقفين على ما فيها بعد أسلافهم‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏وَرِثُواْ‏}‏ بالضم والتشديد مبنياً لما لم يسم فاعله والجملة على القراءتين في موضع الصفة لخلف وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى‏}‏ استئناف مسوق لبيان ما يصنعون باكلتاب بعد وراثتهم إياه‏.‏ وقال أبو البقاء‏.‏ حال من الضمير في ورثوا واستظهره بعضهم ويكفي مقارنته لبعض زمان الوراثة لامتداده، والغرض ما لا ثبات له ومنه استعار المتكلمون العرض لمقابل الجوهر‏.‏ وفي النهاية العرض بالفتح متاع الدنيا وحطامها، وقال أبو عبيدة‏:‏ هو غير النقدين من متاعها وبالسكون المال والقيم، و‏{‏الادنى‏}‏ صفة لمحذوف أي الشيء الأدنى والمراد به الدنيا وهو من الدنو للقرب بالنسبة إلى الآخرة، وكونها من الدناءة خلاف الظاهر وان كان ذلك ظاهراً فيها لأنه مهموز، والمراد بهذا العرض ما يؤخذونه من الرشا في الحكومات وعلى تحريف الكلام ‏{‏وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ ولا يؤاخذنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنا، والجملة عطف على ما قبلها واحتمال الحالية يحتاج إلى تقدير مبتدأ من غير حاجة ظاهرة والفعل مسند إلى الجار والمجرور؛ وجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير يأخذون‏:‏ ‏{‏وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ في موضع الحال قيل من ضمير يقولون، والقول بمعنى الاعتقاد أي يرجون المغفرة وهم مصرون على الذنب عائدون إلى مثله غير تائبين عنه، وقيل‏:‏ من ضمير لنا والمعنى على ذلك والأول أظهر، والقول بأن تقييد القول بذلك لا يستلزم تقييد المغفرة به والمطلوب الثاني والثاني مكتفل به لا يخلو عن نظر‏.‏

واختار الحلبي والسفاقسي أن الجملة مستأنفة لا لأن الجملة الشرطية لا تقع حالا إذ وقوعها مما لا شك في صحته بل لأن في القول بالحالية نزغة اعتزالية ولا يخفى أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن الحالية أبلغ لأن رجاءهم المغفرة في حال يضادها أوفق بالانكار عليهم فافهم ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب‏}‏ أي الميثاق المذكور في التوراة فالإضافة على معنى في، ويجوز أن تكون اختصاصية على معنى اللام ويؤول المعنى إلى ما ذكر، وال في الكتاب للعهد، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ عطف بيان للميثاق، وقيل‏:‏ بدل منه، وقيل‏:‏ إنه مفعول لأجله، وقيل‏:‏ إنه متعلق بميثاق بتقدير حرف الجر أي بأن لا يقولونا، وجوز في ‏{‏ءانٍ‏}‏ أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لميثاق لأنه بمعنى القول، وفي ‏{‏لا‏}‏ أن تكون ناهية وأن تكون نافية واعتبار كل مع ما يصح معه مفوض إلى ذهنك، والمراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على بتهم القول بالمغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم وبخوا على إيجابهم على الله تعالى غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها، وجاء البت من السين فإنها للتأكيد كما نص عليه المحققون، وقد عرض الزمخشري عامله الله تعالى بعدله في تفسير هذه الآية بأهل السنة، وزعم أن مذهبهم هو مذهب اليهود بعينه حيث جوزوا غفران الذنب من غير توبة، ونقل عن التوراة من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة، وأنت تعلم أن اليهود أكدوا القول بالغفران وأهل السنة لا يجزمون في المطيع بالغفران فضلاً عن العاصي بما هو حق الله تعالى فضلاً عمن عصاه سبحانه فيما هو من حقوق العباد فالموجبون على الله تعالى وإن كان بالنسبة إلى التائب أقرب إليهم فهل ما ادعاه إلا من قبيل ما جاء في المثل رمتني بدائها وانسلت وما نقله عن التوراة إن كان استنباطاً من الآية فلا تدل على ما في الكشف إلا على تحريفهم ما في التوراة من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم ونحو ذلك من تسهيلاً تهم على الخاصة وتخفيفاتهم على العامة يأخدون الرشا بذلك والتقول على الله عظيمة وإن كان قد قرأ التوراة التي لم تحرف وأنها هي تعين الحمل على الشرك بقواطع من كتاب الله تعالى الكريم أو يكون ذلك لهم وهذا لهذه الأمة المرحومة خاصة، وقد سلم هو نحوا منه في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 31‏]‏ وقد أطبق أهل السنة على ذم المتمني على الله، ورووا عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله سبحانه» ومن هنا قيل‏:‏ إن القوم ذمو بأكلهم أموال الناسبالباطل وإتباع أنفسهم هواها وتمنيهم على الله سبحانه ووبخوا على افترائهم على الله في الأحكام التي غيروها وأخذوا عرض هذا الأدنى على تغييرها فكأنه قيل‏:‏ الم يؤخذ عليهم الميثاق المذكور في كتابهم أن لا يقولوا على الله تعالى في وقت من الأوقات إلا الحق الذي تضمنه الكتاب فلم حكموا بخلافه وقالوا‏:‏ هو من عند الله وما هو من عند الله ليشتروا به ثمناً فليلاً‏؟‏ وفيه مع مخالفته لما روي عن الحبر مخالفة للظاهر‏.‏ وقرأ الجحدري ‏{‏أَن لا تَقُولُواْ‏}‏ بالخطاب على الالتفات ‏{‏وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‏}‏ أي قرأوه فهم ذاكرون لذلك، وهو عطف على ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ‏}‏ من حيث المعنى وإن اختلفا خبراً وانشاءاً إذ المعنى أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا الخ، وجوز كونه عطفاً على ‏{‏لَمْ يُؤْخَذْ‏}‏ والاستفهام التقريري داخل عليهما وهو خلاف الظاهر أو على ورثوا وتكون جملة ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ‏}‏ معترضة وما قبلها حالية أو يكون المجموع اعتراضاً كما قيل ولا مانع منه خلا ان الطبرسي نقل عن بعضهم تفسير درسوا على هذا الوجه من العطف بتركوا وضيعوا وفيه بعد‏.‏

وقيل‏:‏ إن الجملة في موضع الحال من ضمير يقولوا باضمار قد أي أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلا الحق الذي تضمنه كتابهم في حال دراستهم ما فيه وتذكرهم له وهو كما ترى‏.‏ وقرأ السلمي ‏{‏ادارسوا‏}‏ بتشديد الدال وألف بعدها وأصله تدارسوا فادغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل‏.‏ ‏{‏فِيهِ والدار الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ الله تعالى ويخافون عقابه فلا يفعلون ما فعل ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ فتعلموا ذلك ولا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العذاب بالنعيم المقيم، وهو خطاب لأولئك المأخوذ عليهم الميثاق الآخذين لعرض هذا الأدنى؛ وفي الالتفات تشديد للتوبيخ، وقيل‏:‏ هو خطاب للمؤمنين ولا التفات فيه‏.‏

وقرأ جمع بالياء على الغيبة وبالتاء وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ وابن ذكوان‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وسهل‏.‏ ويعقوب‏.‏ وحفص‏.‏ وهذه الآية ظاهرة في التوبيخ على الأخذ، وجعل بعضهم قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم‏}‏ الخ توبيخاً على ذلك القول ففي الآية ما هو من قبيل ما فيه اللف والنشر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب‏}‏ أي يتمسكون به في أمور دينهم يقال‏:‏ مسك بالشيء وتمسك به بمعنى، قال مجاهد‏.‏ وابن زيد‏:‏ هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة وقال عطاء‏:‏ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمراد من الكتاب القرآن الجليل الشأن، وقرأ أبو بكر‏.‏ وحم‏{‏يُمَسّكُونَ‏}‏ التخفيف من الإمساك، وابن مسعود ‏{‏استمسكوا‏}‏، وأبي ‏{‏مسكوا‏}‏ وفي ذلك موافقة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏ ولعل التغيير في المشهور للدلالة على أن التمسك أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف الإقامة فإنها مختصة بالأوقات المخصوصة، وتخصيصها بالذكر من بين سائر العبادات مع دخولها بالتمسك بالكتاب لانافتها عليها لأنها عماد الدين، ومحل الموصول إما الجر عطفاً على ‏{‏للذين يتقون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 169‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 169‏]‏ اعتراض مقرر لما قبله، والاعتراض قد يقرن بالفاء كقوله‏:‏

فاعلم فعلم المرء ينفعه *** أن سوف يأتي كل ما قدرا

وإما الرفع على الابتداء والخبر قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين‏}‏ والرابط إما الضمير المحذوف كما هو رأي جمهور البصريين أي أجر المصلحين منهم وإما الألف واللام كما هو رأي الكوفيين فإنها كالعوض عن الضمير فكأنه قيل مصلحيهم، وأما العموم في المصلحين فإنه على المشهور من الروابط ومنه نعم الرجل زيد على أحد الأوجه أو وضع الظاهر موضع المضمر بناء على أن الأصل لا نضيع أجرهم إلا أنه غير لما ذكر تنبيهاً على أن الصلاح كالمانع من التضييع لأن التعليق بالمشتق يفيد علية مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل‏:‏ لا نضيع أجرهم لصلاحهم‏.‏

وقيل‏:‏ الخبر محذوف والتقدير والذين يمسكون بالكتاب مأجورون أو مثابون، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا لاَ نُضِيعُ‏}‏ الخ حينئذ اعتراض مقرر لما قبله

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ‏}‏ عطف على ما قبل بتقدير اذكر والنتق الرفع كما روي عن ابن عباس‏.‏ وإليه ذهب ابن الأعرابي، وعن أبي مسلم أنه الجذب، ومنه نتقت الغرب من البئر، وعن أبي عبيدة أنه القلع وما روي عن الحبر أوفق بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 154‏]‏ وعلى القولين الأخيرين يضمن معنى الرفع ليتطابق الآيتان، والمراد بالجبل الطور أو جبل غيره وكان فرسخاً في فرسخ كمعسكر القوم فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام لما توقفوا عن أخذ التوراة وقبولها إذ جاءتهم جملة مشتملة على ما يستثقلونه فقلعه من أصله ورفعه عليهم ‏{‏كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏}‏ أي غمامة أو سقيفة؛ وفسرت بذلك مع أنها كل ما علا وأظل لأجل حرف التشبيه إذ لولاه لم يكن لدخوله وجه و‏{‏فَوْقَ‏}‏ ظرف لنتقنا أو حال من الجبل مخصصة على ما قيل للرفع ببعض جهات العلو، والجملة الاسمية بعد في موضع الحال أيضاً أي مشابها ذلك ‏{‏وَظَنُّواْ‏}‏ أي تيقنوا ‏{‏أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ‏}‏ أي ساقط عليهم إن لم يقبلوا يوعدون بذلك بهذا الشرط والصادق لا يتخلف ما أخبر به لكن لما لم يكن المفعول واقعاً لعدم شرطه أشبه المظنون الذي قد يتخلف فلهذاسمي ذلك ظناً‏.‏

وقيل‏:‏ تيقنوا ذلك لأن الجبل لا يثبت في الجو، واعترض بأن عدم ثبوته فيه لا يقتضي التيقن لأنه على جري العادة وأما على خرقها فالثابت الثبوت والواقع عدم الوقوع ويكون ذلك كرفعه فوقهم ووقوفه هناك حتى كان ما كان منهم، والحق أن المتيقن لهم الوقوع إن لم يقبلوا لكونه المعلق عليه، ففي الأثر أن بني إسرائيل أبوا أن يقبلوا التوراة فرفع الجبل فوقهم، وقيل‏:‏ إن قبلتم وإلا ليقعن عليكم فوقع كل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون‏:‏ هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة وامتثلوا ما أمروا به ولا يقدح في ذلك احتمال الثبوت على خرق العادة كما لا يقدح فيه عدم الوقوع إذا قبلوا، ألا ترى إلى أنه يتيقن احتراق ما وقع في النار مع إمكان عدمه كما في قصة الخليل عليه الصلاة والسلام، وذهب الرماني‏.‏ والجبائي إلى أن الظن على بابه، والمراد قوي في نفوسهم أنه واقع، واختاره بعض المحققين، والجملة مستأنفة، وجوز أن تكون معطوفة على نتقنا أو حالاً بتقدير قد كما قال أبو البقاء ‏{‏خُذُواْ‏}‏ أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا ‏{‏مَا ءاتيناكم‏}‏ من الكتاب ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏ أي بجد وعزم على تحمل مشاقه، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً من الواو، والمراد خذوا ذلك مجدين ‏{‏واذكروا مَا فِيهِ‏}‏ أي اعملوا به ولا تتركوه كالمنسي وهو كناية عن ذلك أو مجاز‏.‏

وقرأ ابن مسعود ‏{‏وتذكروا‏}‏ وقرىء واذكروا بمعنى وتذكروا ‏{‏قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ بذلك قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق أو راجين أن تنتظموا في سلك المتقين‏.‏

وجوز أن يراد بما آتيناكم الآية العظيمة أعني نتق الجبل أي خذوا ذلك إن كنتم تطيقونه كقوله تعالى ‏{‏إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والارض *فانفذوا‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 33‏]‏ واذكروا ما فيه من القدرة الباهرة والإنذار، وعلى هذا فالمراد من نتق الجبل إظهار العجز لا غير، والكلام نظير قولك لمن يدعي الصرعة والقوة بعد ما غلبته‏:‏ خذه مني، وحاصله إن كنتم تطلبون آية قاهرة وتقترحونها فخذوا ما آتيناكم إن كنتم تطيقونه، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر والآثار على خلافه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏172‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ‏(‏172‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ‏}‏ منصوب بمضمر على طرز ما سلف في نظائره وهو معطوف على ما قبل مسوق لإلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام فإن منهم من أشرك فقال‏:‏ عزير بن الله عز اسمه بعد إلزامهم بالميثاق المخصوص بهم والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد، وبعضهم جوز أن يكون تذييلاً تعميماً بعد التخصيص وإظهاراً لتمادي هؤلاء اليهود في الغي ومنعهم عن التقليد، وبعضهم جوز أن يكون تذييلاً تعميماً بعد التخصيص وإظهاراً لتمادي هؤلاء اليهود في الغي بعد أخذ الميثاق الخاص المدلول عليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 171‏]‏ لقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 63‏]‏، وعليه فلا عطف وهو أظهر من التذييل نظراً إلى ظاهر اللفظ وأولى منه إذا خص العام بالمشركين كما قيل، وقد يقال‏:‏ إن الآية مسوقة لبيان أخذ ميثاق سابق من جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم قبل هذه النشأة بما هو أهم الأمور والأصل الأصيل لجميع التكليفات على وجه خال مما يشبه الإكراه متضمن لإلزام المشركين المعاصرين له صلى الله عليه وسلم ورفع احتجاجهم ما كانوا بعد الإشارة إلى أخذ ميثاق من قوم مخصوصين في هذه النشأة على وجه هو أشبه الأشياء بالإكراه بما الظاهر فيه أنه من الأعمال لأن القوم إذ ذاك كانوا مقرين بالربوبية بل بها وبرسالة موسى عليه السلام فلم يكن حاجة إلى نتق الجبل فوقهم لذلك ولو قال قائل‏:‏ إن ذكر ذلك خلال الآيات المتعلقة باليهود من باب الاستطراد والمناسبة فيه ظاهرة لم يبعد لكن الأول وهو الذي جرى عليه أكثر متأخري المفسرين أي واذكر لهم أو للناس إذ أخذ ربك ‏{‏مِن بَنِى ءادَمَ‏}‏ المراد بهم الذين ولد لهم مؤمنين كانوا أو كفاراً نسلاً بعد نسل سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب وتخصيصهم بأسلاف اليهود الذي أشركوا بالله تعالى حيث قالوا ما قالوا مما لا يكاد يلتفت إليه‏.‏

وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الأنباء عن الاجتباء والاصطفاء وهو السبب في إسناده في اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف، وقيل‏:‏ إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج، والتعبير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية، واستأنس بعضهم بمغايرة أسلوب هذا الكلام بما فيه من الالتفات لما قبله من قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 171‏]‏ ولما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 175‏]‏ لكونه استطرادياً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن ظُهُورِهِمْ‏}‏ بدل من بني آدم بدل البعض من الكل بتكرير الجار كما في قوله سبحانه وتعالى‏:‏

‏{‏لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 75‏]‏ وقيل‏:‏ بدل اشتمال وإليه ذهب أبو البقا، ء وبينه بعضهم بأن بدل الاشتمال ما يكون بينه وبين المبدل منه ملابسة بحيث توجب النسبة إلى المتبوع النبسة إلى التابع إجمالاً نحو أعجبني زيد علمه فإنه يعلم ابتداء أن زيداً معجب باعتبار صفاته لا باعتبار ذاته وتتضمن نسبة الأعجاب إليه نسبته إلى صفة من صفاته إجمالاً، ونسبة الأخذ الذي هو بمعنى الإخراج هنا إلى بنء آدم نسبة إلى ظهورهم إجمالاً لأنه يعمل ابتداء أن بني آدم ليسوا مأخوذين باعتبار ذواتهم بل باعتبار أجسادهم وأعضائهم وتتضمن نسبة الأخذ إليهم نسبته إلى أعضائهم إجمالاً، وادعى أن القول به أولى من القول ببدل البعض لأن النسبة إلى المبدل منه الكل تكون تامة وتحصل بها الفائدة بدون ذكر البدل نحو أكلت الرغيف نصفه فإن النبسة تامة لو لم يذكر النصف ولا شك أن النسبة هنا ليست تامة بدون ذكر البدل‏.‏ وأيضاً أن الظهور ليس بعض بني آدم حقيقة بل بعض أعضائهم ولا يخفى ما في ذلك من النظر‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ في الموضعين ابتدائية، وفيه مزيد تقرير لابتنائه على البيان بعد الإبهام والتفصيل غب الإجمال، قيل‏:‏ وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب الآباء ولم يستودعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذُرّيَّتُهُم‏}‏ مفعول ‏{‏أَخَذَ‏}‏ أخر عن المفعول بواسطة الجار لاشتماله على ضمير راجع إليه فيلزم بالتقديم رجوع الضمير إلى متأخر لفظاً ورتبة وهو لا يجوز إلا في مواضع ليس هذا منها ولمراعاة أصالته ومنشئيته ولمامر غير مرة من التشويق إلى المؤخر‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو‏.‏ وابن عامر‏.‏ ويعقوب ‏{‏ذرياتهم‏}‏ والمراد أولادهم على العموم، ومن خص بني آدم بأسلاف اليهود على ما مر خص هذا بأخلافهم وفيه ما فيه، والإشكال المشهور وهو أن كل الناس يصدق عليه بنو آدم وذريته فيتحد المخرج والمخرج منه مدفوع بظهور أن المراد إخراج الفروع من الأصول حسب ترتب الولاد ولا يتوقف التخلص عنه على القول بذلك التخصيص‏.‏

‏{‏ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي أشهد كل واحد من أولئك الذرية المأخوذين من ظهور آبائهم على أنفسهم لا على غيرهم تقريراً لهم بربوبيته سبحانه وتعالى التامة قائلاً لهم‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ أي مالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤنكم ‏{‏قَالُواْ‏}‏ في جوابه سبحانه وتعالى ‏{‏بلى شَهِدْنَا‏}‏ أي على أنفسنا بأنك ربنا لا رب لنا غيرك والمراد اقررنا بذلك، وجاء أن القاضي شريح قال لمقر عنده شهد عليك ابن أخت خالتك، ومن هنا قال الجلال السيوطي‏:‏ إن هذه الآية أصل في الإقرار و‏{‏بلى‏}‏ حرف جواب وألفها أصلية عند الجمهور، وقال جمع‏:‏ الأصل بل والألف زائدة وبعض أولئك يقول‏:‏ إنها لتأنيث الكلمة كالتاء في ثمت وربت لأنها أميلت ولو لم تكن للتأنيث لكانت زائدة لمجرد التكثير كالف قبعثري وتلك لا تمال، وتختص بالنفي فلا تقع إلا في جوابه فتفيد إبطاله سواء كان مجرداً أو مقروناً بالاستفهام حقيقياً كان أو تقريرياً، وقد أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى كما في هذه الآية، ولذلك قال ابن عباس وغيره لو قالوا نعم لكفروا‏.‏

ووجهه أن نعم تصديق للمختبر بنفي أو إيجاب، ولذلك قال جماعة من الفقاء‏:‏ لو قال أليس لي عليك ألف‏؟‏ فقال‏:‏ بلى لزمته؛ ونعم لا‏.‏ وقال آخرون‏:‏ تلزمه فيهما وجروا فيه على مقتضى العرف لا اللغة‏.‏

ونازع السهيلي وجماعة في المحكى عن الحبر وغيره متمسكين بأن الاستفهام التقريري موجب ولذلك امتنع سيبويه من جعل ‏{‏أَمْ‏}‏ متصلة على ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51، 52‏]‏ فإنها لا تقع بعد الإيجاب وإذا ثبت أنه إجياب فنعم بعد الإيجاب تصديق له، قال ابن هشام‏:‏ ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها الإيجاب وذلك متفق عليه و‏{‏بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 59‏]‏ متقدم فيه ما يدل على النفي لكن وقع في الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد ففي «صحيح البخاري» أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ ‏"‏ أترضون أن تكونوا رفع أهل الجنة‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى ‏"‏ وفي «صحيح مسلم» أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أنت الذي لقيتني بمكة فقال له المجيب‏:‏ بلى ‏"‏ وليس لهؤلاء أن يحتجوا بذلك لأنه قليل فلا يتخرج عليه التنزيل انتهى‏.‏ وأجاب البدر الدماميني بأنه لا إشكال في الحقيقة فإن هؤلاء راعوا صورة النفي المنطوق به فيجاب ببلى حيث يراد إبطال النفي الواقع بعد الهمزة وجوزوا الجواب بنعم على أنه تصديق لمضمون الكلام جميعه الهمزة ومدخولها وهو إيجاب كما سلف ودعواه الاتفاق مناقش فيها أما إن أراد الإيجاب المجرد من النفي بالمرة فقد حكى الرضى الخلاف فيه، وذكر أن بعضهم أجاز استعمالها بعده تمسكاً بقوله‏:‏

وقد بعدت بالوصل بيني وبينها *** بلى إن من زار القبور ليبعدا

وإن أراد ما هو الأعم حتى يشمل التقرير المصاحب للنفي فالخلاف فيه موجود مشهور ذكره هو في حرف النون انتهى، ولا يخفى أن البيت شاذ كما صرح به الرضى، والمذكور في بحث النون أن جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين قالوا‏:‏ إنه إذا كان قبل النفي استفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفي المجرد وإن كان مراداً به التقرير فالأكثر أن يجاب بما يجاب به النفي رعياً للفظه، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب رعياً لمعناه وعلى ذلك قول الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم نعم وقد قال لهم‏:‏ ألستم ترون لهم ذلك وقول جحدر‏:‏

أليس الليل يجمع أم عمرو *** وإيانا فداك بنا تداني

نعم وأرى الهلال كما تراه *** ويعلوها النهار كما علاني

وعلى ذلك جرى كلام سيبويه، وقال ابن عصفور‏:‏ أجرت العرب التقرير في الجواب مجرى النفي المحض وإن كان إيجاباً في المعنى فإذا قيل‏:‏ ألم أعطك درهماً قيل في تصديقه‏:‏ نعم وفي تكذيبه بلى، وذلك لأن المقرر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك فإذا قال‏:‏ نعم لم يعلم هل أراد نعم لم تعطني على اللفظ أو نعم أعطيتني على المعنى فلذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى‏.‏ وأما نعم في بيت جحدر فجواب لغير مذكور وهو ما قدره اعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه مع أن عمرو، أو هو جواب لقوله‏:‏ وأرى الهلال قدم عليه وأما قول الأنصار‏:‏ فجاز لأمن الليس لأنه قد علم أنهم يريدون نعم يعرف لهم ذلك، وعلى هذا يحمل استعماله سيبويه لها بعد التقرير انتهى‏.‏

والأحسن أن تكون نعم في البيت جواباً لقوله‏:‏ فذاك بنا تداني، ثم قال ابن هشام‏:‏ ويتحرر على هذا أنه لو أجيب ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ بنعم لم يكف في الإقرار لأنه سبحانه وتعالى أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية ما لا يحتمل غير المعنى المراد من المقر، ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله برفع إله لاحتماله لنفي الوحدة، ولعل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قال‏:‏ إنهم لو قالوا‏:‏ نعم لم يكن إقراراً وافياً، وجوز الشلوبين أن يكون مراده رضي الله تعالى عنه أنهم لو قالوا نعم جواباً للملفوظ على ما هو الأفصح لكان كفراً إذ لأصل تطابق السؤال والجواب لفظاً، وفيه نظر لأن التكفير لا يكون بالاحتمال، والكلام عند جمع تمثيل لخلقه تعالى الخلق جميعاً في مبدأ الفطرة مستعدين للاستدلال بالأدلة الآفاقية والأنفسية المؤدية إلى التوحيد كما نطق به قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

كل مولود يولد على الفطرة *** الحديث مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه سبحانه وتعالى إياهم لمعرفة ربوبيته ووحدانيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من العقول والبصائر ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكيناً تاماً ومن تمكنهم منها تمكناً كاملاً وتعرضهم لها تعرضاً قوياً بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلاً من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب، ونظير ذلك في قول ما في قوله سبحانه وتعالى‏:‏

‏{‏فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ ومن ذلك سائر ما يحكى عن الحيوان والجماد كقوله‏:‏

شكا إلى جملي طول السري *** مهللاً رويداً فكلانا مبتلي

وقوله‏:‏

امتلأ الحوض وقال قطني *** مهلاً رويداً قد ملأت بطني

وجعلوا قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ من تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديداً في الإلزام أو إليهم إلى متقدميهم بطريق التغليب وهو مفعول له لما قبله من الأخذ والإشهاد أو لمقدر يدل عليه ذلك، والمعنى على ما يقول البصريون‏:‏ فعلنا مافعلنا كراهة أن تقولوا وعلى ما يقول الكوفوين‏:‏ لئلا تقولوا ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ عند ظهور الأمر وإحاطة العذاب بمن أشرك ‏{‏إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا‏}‏ أي وحدنية الربوبية ‏{‏غافلين‏}‏ لم ننبه عليه، وإنما لم يسعهم هذا الاعتذار حينئذ على ما قيل لأنهم نبوا بنصب الأدلة وجعلوا متهيئين تهيأ تاماً لتحقيق الحق وإنكار ذلك مكابرة فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك‏.‏